لقد مررنا جميعًا بهذه التجربة: كم مرة دخلت غرفة الاجتماعات محمّلًا بأفكار مبتكرة، واستراتيجية قوية، أوتحليل دقيق للبيانات، لتُقابل بردود فعل باهتة؟ كل الحقائق متوفرة، والخطة متقنة، لكن الحماس غائب والتفاعل محدود. فما السبب؟ ببساطة، الحقائق وحدها نادرًا ما تكون حافزاً نحو التغيير. هذا ما تؤكده أنجالي شارما في كتابها الملهم "السرد الاستراتيجي"، حيث توضّح أن رواية القصة المناسبة، بالطريقة المناسبة، لم تعد مهارة ناعمة، بل أداة أساسية للتأثير وتحقيق النتائج، خاصة في عالم يتطلب التواصل الفعّال والإنساني أكثر من أي وقت مضى.
اخترنا أن نسلط الضوء على كتاب أنجالي شارما "السرد الاستراتيجي" لأنه يقدم أدوات عملية لأي قائد أومحترف يسعى إلى التأثير بفعالية. وفي بيئة الأعمال الديناميكية في العالم العربي—حيث تُقدّر العلاقات الشخصية والوضوح في التواصل—تُعد القدرة على توصيل الرسائل من خلال السرد القصصي أداة قيادية حيوية. هذا الكتاب يزود القادة بأساليب تساعدهم في تكييف رسائلهم مع الجمهور باختلاف شرائحهم، وبناء الثقة، وتحقيق التغيير داخل مؤسساتهم ومجتمعاتهم.
ما هو السرد الاستراتيجي؟
تقدّم أنجالي شارما، مؤسسة شركة Narrative: The Business of Stories، دليلاً عمليًا لتحويل المعلومات إلى قصص مؤثرة. وهي تُظهر أن التحليل والبيانات وحدها لا تكفي، وأن ما يُحدث الفرق هو طريقة توصيل هذه البيانات - أي سرد القصة التي تكمن وراءها.
المشكلة .... عندما تفشل الحقائق وحدها
تصوّر أن فريقًا قضى أسابيع في تحليل بيانات التجارة الإلكترونية والعرض دقيق، والتوصيات واضحة، لكن الجمهور لا يتفاعل، لماذا؟ لأن البيانات لم تُقدم في صورة رحلة مفهومة و هذا ما تُطلق عليه شارما "الضوضاء غير المُجدية"—بيانات بلا سياق أو رواية تُظهر أهمية ما تم اكتشافه.
الحل: نموذج CPIAO لتحويل البيانات إلى قصة ملهمة
تقدم شارما حلاً فعّالاً: وهو تحويل الأفكار إلى قصص آسرة تلقى صدى لدى الجمهور. تخيّل الأفكار والأفعال والنتائج كنوتات موسيقية فردية. كلٌّ منها على حدة، مجرد ضوضاء؛ لكن عند تنظيمها لغرض محدد، تصبح موسيقى لا تُنسى. يكمن السر في توفير السياق والعملية. للحصول على رؤية مبنية على البيانات، يعني ذلك إشراك الجمهور في الرحلة، ومشاركة الرحلة التي قادت إلى الاكتشاف
وتقترح شارما استخدام نموذج روائي مكون من خمس عناصر وفيما يلى عناصر هذا النموذج:
- السياق (Context): ما هي المشكلة أو الظرف الذي بدأ منه التحليل؟
- العملية (Process): كيف تم جمع البيانات؟ وما هي التحديات التي واجهتموها؟
- الرؤية (Insight): ما هو الاكتشاف الرئيسي الذي توصلتم إليه؟
- الإجراء (Action): ما هي الخطوات التي تقترحونها بناءً على هذا الاكتشاف؟
- النتيجة (Outcome): ما هو الأثر المتوقع للتنفيذ؟
تمامًا مثل الموسيقى، ترتيب هذه "النغمات" في تسلسل روائي يحوّل الضوضاء إلى لحنٍ مؤثر.
رواية القصص في ظل الغموض: عند عدم وضوح الرؤية
وهنا نجد سؤالاً: ماذا لو لم تكن الرؤية واضحة؟ تُشجع شارما المحللين على التعامل مع عدم اليقين بشفافية، وبدلاً من التظاهر بامتلاك الإجابات، يجب عليهم مشاركة ما هو معلوم، واستكشاف الأسباب المحتملة، وتحفيز النقاش البنّاء، فهذه الطريقة تُولد الثقة، وتفتح المجال للتعاون متعدد التخصصات.
على سبيل المثال، إذا انخفض إنتاج المصانع ولم يكن السبب واضحًا، صف الملاحظات، وسلط الضوء على النقص في الوضوح، ثم بسّط الاحتمالات من خلال البحث عن معلومات إضافية من وحدات الأعمال الأخرى أوالتحقق من الأنماط التاريخية. ستساعد الإجابات في تحسين قصة البيانات. لستَ بحاجة إلى جميع الإجابات مُسبقًا؛ فالشفافية بشأن ما هو غير مؤكد تُعزز المصداقية وتُتيح إمكانيات تُحفّز محادثات قيّمة.
قوة القصص الصغيرة وتأثيرها الكبير
ليست كل القصص بحاجة لأن تكون درامية أو استثنائية، حيث تُبرز شارما أن القصص الصغيرة، الواقعية، والمتكررة هي الأكثر تأثيرًا، مثال على ذلك نساء إدارة أوباما اللاتي اعتمدن أسلوب "التضخيم" Amplification لضمان سماع أصواتهن وتقدير أفكارهن، هي قصة بسيطة، لكن تُمثل واقعًا مألوفًا وتحمل حلاً قابلًا للتكرار.
من مجرد إيصال المعلومات إلى بناء التواصل الإنساني
تُشير شارما إلى أن القادة لا يحتاجون فقط إلى إيصال المعلومة الصحيحة، بل إلى خلق صلة إنسانية حقيقية. فالمعرفة وحدها لم تعد تُلهم. وما يصنع التأثير هو فهم الجمهور، والتحدث بلغته، وإشراكه في القصة. وهنا تأتي أهمية تبسيط الرسائل، وتجنب المصطلحات المعقدة، والتحدث بوضوح عن التحديات اليومية والواقع العملي، فالقصة الجيدة ليست مجرد قصة أو رواية لموقف بل تُزيد الشعور والإقناع والدوافع.
وتنهي شارما كتابها بتذكير مهم: القيم المؤسسية لا تعني شيئًا ما لم تُروَ من خلال قصص واقعية. فمثلاً، قصة مدير يقول لموظفة علقت في الزحام "اعملي من المنزل اليوم" ليست مجرد قرار إداري، بل تعبير فعلي عن قيمة "المرونة" و"الثقة".
إن "السرد الاستراتيجي" ليس مجرد كتابًا عن أهمية رواية القصص بالنسبة للقائد مع مرؤوسيه، بل هي دليل عملي للقادة لتحويل البيانات إلى تأثير، إنه يعلّمنا كيف نُحوّل الرسائل إلى روابط، والأفكار إلى حوارات، والرؤى إلى خطوات عملية. وفي بيئة العمل الحكومية أو المؤسسية، القصص ليست رفاهية، بل هي وسيلة قيادية تُعزز الفهم، تبني الثقة، وتُطلق التغيير.





